الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب (نسخة منقحة)
.فتنة الناصري واستيلاؤه على الشام ومصر واعتقال السلطان بالكرك. لما بلغ الناصري بحلب اعتقال هؤلاء الأمراء استراب واضطرب وشرع في أسباب الانتقاض ودعا إليه من يشيع الشر وسماسرة الفتن من الأمراء وغيرهم فأطاعوه وافتتح أمره بالنكير للأمير سودون المظفري والانحراف عنه لما كان منه في نكبته واغراء السلطان به ثم ولايته مكانه ومن وظائف الحاجب في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو يطالع السلطان بما يحدث في عمله ويعترض شجى في صدر من يريد الانتقاض من ولاته فأظلم الجو بين هؤلاء الرهط وبين المظفري وتفاقم الأمر وطير بالخبر إلى السلطان فأخرج للوقت دواداره الأصغر تلكتمر ليصلح بينهما ويسكن الثائرة وحين سمعوا بمقدمة ارتباوا وارتبكوا في أمرهم وقدم تلكتمر فتلقاه الناصري وألقى إليه كتاب السلطان بالندب إلى الصلح مع الحاجب والاغضاء له فأجاب بعد أن التمس من حقائب تلكتمر مخاطبة السلطان وملاطفته للأمراء حتى وقف عليه ثم غلب عليه أولئك الرهط من أصحابه بالفتك بالحاجب فأطاعهم وباكرهم تلكتمر بدار السعادة ليتم الصلح بينهم وتذهب الهواجس والنفرة فدعاه الناصر إلى بعض خلواته وبينما هو يحادثه وإذا بالقوم قد وثبوا على الحاجب وفتكوا به وتولى كبر ذلك انبقا الجوهري واتصلت الهيعة فوجم تلكتمر ونهض إلى محل نزوله واجتمع الأمراء إلى الناصري واعصوصبوا عليه ودعاهم إلى الخلعان فأجابوا وذلك في محرم سنة إحدى وتسعين واتصل الخبر بطرابلس وبها جماعة من الأمراء يرومون الانتقاض منهم بدلار الناصري عميد الفتن فتولى كبرها وجمع الذين تمالؤا عليها وعمدوا إلى الايوان السلطاني المسمى بدار السعادة وقبضوا على النائب وحبسوه ولحق بدلار الناصري في عساكر طرابلس وأمرائها وفعل مثل ذلك أهل حلب وحمص وسائر ممالك الشام وسرح السلطان العساكر لقتالهم فسارا يتمش الأتابك ويونس الدوادار والخليلي جركس أمير الماخورية وأحمد بن بيبقا أمير مجلس وابدكاز صاحب الحجاب فيمن إليهم من العسارك وانتخب من أبطال مماليكهم وشجعانهم خمسمائة مقاتل واستضافهم إلى الخليلي وعقد لهم لواءه المسمى بالشاليش وأزاح عللهم وعلل سائر العساكر وساروا على التعبية منتصف ربيع السنة وكان الناصري لما فعل فعلته بعث عن منطاش وكان مقيما بين أحياء التتر منذ رجوع العساكر عن سيواس فدعاه ليمسك معه حبل الفتنة والخلاف فجاء وملأه مبرة وإحسانا واستنفر طوائف التركمان والعرب ونهض في جموعه يريد دمشق وطرنطاي نائبها يواصل تعريف السلطان بالأخبار ويستحث العساكر من مصر على خلع نائبها الأمير الصفوي وبينه وبين الناصر علاقة وصحبة فاسترابوا به وتقبضوا عليه ونهبوا بيته وبعثوا به حبيسا إلى الكرك وولوا مكانه محمد باكيش بن جند التركماني كان مستخدما عند بندمر هو وأبوه وولي لهذا العهد على نابلس وما يجاورها فنقلوه إلى غزة ثم تقدموا إلى دمشق واختاروا من القضاة وفدا أوفدوه على الناصري وأصحابه للاصلاح فلم يجيبوا وأمسكوا الوفد عندهم وساروا للقاء ولما تراءى الجمعان بالمرج نزع أحمد بن بيبقا وايدكاز الحاجب ومن معهما إلى القوم فساروا معهم واتبعهم مماليك الأمراء وصدق القوم الحملة على من بقي فانفضوا ولجأ ايتمش إلى قلعة دمشق فدخلها وكان معه مكتوب السلطان بذلك متى احتاج إليه وذهب يونس حيران وقد أفرده مماليكه فلقيه عنقا أمير الأمراء وكان عقد له بعض النزعات أيام سلطانه فتقبض عليه وأحيط بجركس الخليلي ومماليك السلطان حوله وقد أبلوا في ذلك الموقف واستلحم عامتهم فخلص بعض العدو إليه وطعنه فأكبه ثم احتز رأسه وذهب ذلك الجمع شعاعا وافترقت العساكر في كل وجه وجيء بهم أسرى من كل ناحية ودخل الناصري وأصحابه دمشق لوقتهم واستولوا عليها وعاثت عساكرهم من العرب والتركمان في نواحيها وبعث إليهم عنقا يستأذنهم في أمر يونس فأمر بقتله فقتله وبعث إليهم برأسه وأوعزوا إلى نائب القلعة بحبس ايتمش عنده وفرقوا المحبوسين من أهل الواقعة على السجون بقلعة دمشق وصفد وحلب وغيرها وأظهر ابن باكيس دعوته بغزة وأخذ بطاعتهم ومر به انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق ناجيا من الوقعة إلى مصر فقبض عليه وحبسه بالكرك واستعد السلان للمدافعة وولى دمرداش أتابكا مكان ايتمش وقرماش الجندارد واردار مكان يونس وعمر سائر المراتب عمن فقدمنها وأطلق الخليفة المعتقل المتوكل بن المعتضد وأعاده إلى خلافته وعزل المنصوب مكانه وأقام الناصري وأصحابه بدمشق أياما ثم أجمعوا المسير إلى مصر ونهضوا إليها بجموعهم وعميت أنباؤهم حتى أطلت مقدمتهم على بليس ثم تقدموا على بليس إلى بركة الحاج وخيموا بها لسبع من جمادي الأخيرة من السنة وبرز السلطان في مماليكه ووقف أمام القلعة بقية يومه والناس يتسايلون إلى الناصري من العساكر ومن العامة حتى غصت بهم بسائط البركة واستأمن أكثر الأمراء مع السلطان إلى الناصري فأمنهم واطلع السلطان على شأنهم وسارت طائفة من العسكر وناوشوهم القتال وعادوا منهزمين إلى السلطان وارتاب السلطان بأمره وعاين انحلال عقدته فدس إلى الناصري بالصلح وبعث إليه بالملاطفة وأن يستمر على ملكه ويقوم بدولته خدمه وأعوانه وأشار بأن يتوارى بشخصه أن يصينه أحد من غير البيبقاوية بسوء فلما غشيه الليل أذن لم بقي معه من مماليكه في الانطلاق ودخل إلى بيته ثم خرج متنكرا وسرى في غيابات المدينة وباكرهم الناصري وأصحابه القلعة فاستولوا عليها ودعوا أمير حاج ابن الأشرف فأعادوا إلى التخت كما كان ونصبوه للملك ولقبوه المنصور وبادروا باستدعاء الجوباني والأمراء المعتقلين بالإسكندرية فأغذوا السير ووصلوا ثاني يومهم وركب الناصري وأصحابه للقائهم وأنزل الجوباني عنده بالاصطبل وأشركه في أمره وأصبحوا ينادون بطلب السلطان الظاهر بقية يومهم ذلك ومن الغد حتى دل عليه بعض مماليك الجوباني وحين رآه قبل الأرض وبالغ في الأدب معه وحلف له على الأمان وجاء به إلى القلعة فأنزله بقاعة الغصة واشتوروا في أمره وكان حرص منطاش وزلار على قتله أكثر من سواهما وأبى الناصري والجوباني إلا الوفاء بما اعتقد معهم واستقر الجوباني أتابك والناصري رأس النوبة الكبرى ودمرداش الأحمدي أمير سلاح وأحمد بن بيبقا أمير مجلس والابقا العثماني دوادار وانبقا الجوهري استاذدار وعمرت الوظائف والمراتب ثم بعثوا زلار نائبا على دمشق وأخرجوه إليها وبعثوا كتبقا البيبقاوي على حلب وكان السلطان قد عزله عن طرابلس واعتقله بدمشق فلما جاء في جملة الناصري بعثه على حلب مكانه وقبضوا على جماعة من الأمراء فيهم النائب سودون باق وسودون الطرنطاي فحبسوا بعضهم بالإسكندرية وبعثوا آخرين إلى الشام فحبسوا هنالك وتتبعوا مماليك السلطان فحبسوا أكثرهم وأشخصوا بقيتهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء وقبضوا على استاذدار محمود قهرمان الدولة وقارون القصري فصادروه على ألف ألف درهم ثم أودعوه السجن وهم مع ذلك يتشاورون في مستقر السلطان بين الكرك وقوص والاسكندرية حتى اجمعوا على الكرك ووروا بالإسكندرية حذرا عليه من منطاش فلما أزف مسيره قعد له منطاش عند البحر رصدا وبات عامة ليله وركب الجوباني مع السلطان من القلعة وأركب معه صاحب الكرك موسى بن عيسى في لمة من قومه يوصلونه إلى الكرك وسار معه برهة من الليل مشيعا ثم رجع وشعر منطاش من أمره وطوى على الغش وأخذ ثياب الثورة كما يذكر ونجا السلطان إلى الكرك في فل من غلماته ومواليه ووكل الناصري به حسن الكشكي من خواصه وولاه على الكرك وأوصاه بخدمته ومنعه ممن يرومه بسوء فتقدمه إلى الكرك وأنزله القلعة وهيأ له النزول بما يحتاج إليه وأقام هنالك حتى وقع من لطائف الله في أمره ما يذكر بعد أن شاء الله تعالى وجاء الخبر أن جماعة من مماليك الظاهر كانوا مختفين منذ الوقعة فاعتزموا على الثورة بدمشق وإنهم ظفروا بهم وحبسوا جميعا ومنه أيبقا الصغير والله تعالى أعلم.
|